يمر العالم العربي بمرحلة مفصلية في تاريخه هذه الأيام. مرحلة اختلط فيها الصالح بالطالح، واختلطت فيها الانتهازية بالثورة، وكثر فيها تغيير الولاءات وصار نوعاً من التقليد أن نرى الجلادين يصيرون ثواراً وينغسلون من كل أدران الماضي الذي شاركوا في تشكيله بكل مساوئه لمجرد أنهم غيروا الولاء بين ليلة وضحاها وأرسلوا بياناً مسجلاً أو نقل عنهم أنهم تابوا وأصلحوا وانحازوا إلى جانب الشعب. هذه السنة الخطيرة تحمل في طياتها الكثير من المخاطر على مستقبل الثورة في العالم العربي لأن الديكتاتور لا يمكن أن يستحيل ديمقراطياً. الجلاد جلاد، ومن خدم الديكتاتورية سيسعى حتماً إلى تأسيس أخرى، لأن الطبع يغلب التطبع. هذا الكلام ضروري قبل مناقشة قضية الذاكرة العربية المشتركة وطبيعة إدارة المرحلة اللاحقة في مسلسل التغيير في البلاد العربية. خاصة بعد سقوط نظام القذافي ومقتله المريع، وبدء محاكمة حسني مبارك وما رافق هذين الحدثين من نزاعات اختلطت فيها الرغبة الصادقة في طي صفحة الماضي، عن طريق تفعيل دور الجهاز القضائي، باعتباره أسمى التعبيرات عن وجود الرغبة في الانتقال إلى دولة مدنية تحكمها القوانين، بنزوع إلى الانتقام والعنف اللفظي والمادي وغيرها من السلوكيات المنحرفة التي قد تؤدي إلى تحريف الثورة عن مسارها الصحيح وتدخلها في متاهات ضيقة تقضي على كل الآمال الكبرى التي علقت عليها.
نقاش الذاكرة الجماعية طويل لأنه لا يتعلق بالماضي فقط ولكن بالحاضر أيضاً. فالذاكرة تعتمد على التذكر، والتذكر عادة ما يكون لأشياء حدثت وانتهت في الماضي، ولكن المتذكر يُعْمِلُ هذه الملكة لأغراض متعددة تخدم مصلحته في الحاضر. لذلك يتميز الحديث عن الذاكرة الجماعية بالكثير من الحساسية لما ينشأ عنه من صراع عند الحديث عن التاريخ. فالخطاب السائد يستند على الذاكرة، ومن ينجح في فرض وجهة نظره حول الذاكرة، ينجح أيضا في فرض تصوره للتاريخ والأحداث وما يترتب عليها من عواقب على المستوى السياسي. أما وقد سقطت هيبة الأنظمة الديكتاتورية التي قمعت هذه الذاكرة لنصف قرن، فإن الشعوب العربية تجد نفسها اليوم أمام امتحان الذاكرة الجماعية وعلاقتها ببناء دولة الحق والقانون والمؤسسات، وجبر كل أشكال الضرر الفردي والجماعي الذي لحق بهذه المجتمعات نتيجة الممارسات القمعية للأنظمة البائدة. تحديد المسؤولية الرمزية والتاريخية عن كل الممارسات السلطوية البائدة جزء لا يتجزأ من الثورة، ومن المصالحة الضروري تفعليها بين الشعوب العربية وماضيها، ليس بغرض النسيان ولكن من أجل التذكر ومنع تكرار نفس التجارب الأليمة. السؤال الآن هو كيف نعالج إرث الذاكرة الجماعية للبلاد العربية بعد خروجها من نير الاستبداد والقمع؟ هل الانتقامات التي نسمع عنها بالجملة، في ليبيا خاصة، كافية لمصالحة الشعوب مع الماضي أم أن العدالة كفيلة بتحقيق هذه المصالحة بين الشعوب وماضيها؟
المراحل الانتقالية مراحل شديدة الحساسية في تاريخ كل الشعوب وما سمعناه وقرأناه وسوف نقرأه عن تصفية المعارضين السياسيين في ليبيا، وبروز نزعات انتقامية، شملت المتعاونين مع النظام السابق، ما هو إلا جزء لا يتجزأ من أشكال التعبير عن الغضب والعنف الكامن في نفوس أناس عاشوا لفترة طويلة في ظل نظام حكمهم بالحديد والنار لأربعة عقود. أما دعوة الكثير من الأصوات إلى إعدام الرئيس المصري المخلوع، فهي أيضا تعبير عن هذه الرغبة في القصاص من رجل ألحق بالمصريين الكثير من الأذى أثناء فترة حكمه الطويل. إلا أننا، في مقابل هذه الأصوات التي تدعو إلى الانتقام، سمعنا أصواتاً أخرى تدعو إلى تفعيل دور العدالة. ليس بغرض الانتقام ولكن في سبيل إحقاق الحق وتفعيل جهاز القضاء المستقل والنزيه باعتباره الوسيلة الأكثر حضارية والأكثر تعبيراً عن الرغبة في الانتقال إلى نظام ديمقراطي يسود فيه القانون وتتحقق فيه العدالة. كما أن اللجوء إلى القضاء وتمكين المتهمين من حقهم في الدفاع عن النفس مناسبة لا تقدر بثمن، لتمكين الشعب من معرفة حقيقة ما حدث خلال مرحلة حكم هؤلاء الناس في سبيل تصحيح التاريخ وإنعاش الذاكرة الوطنية وتطهيرها من الأكاذيب وكل أشكال الأراجيف التي وظفت لاختطاف الذاكرة الجماعية للشعوب العربية. فالقضاء هو الجهاز الوحيد المخول في النظر في ما ارتكبته الأنظمة السابقة من جرائم ضد شعوبها ويجب أن يتم تحقيق العدالة، لكل الضحايا، لأنها رسالة قوية لكل من يصل السلطة ويستخف بالشعب في المستقبل. لكن، وكما قلنا، تبقى المصالحة ضرورية، بعد إعمال آلية العدالة، لأنه ليس من المعقول محاكمة كل الناس الذين تعاملوا مع النظام الديكتاتوري وانخرطوا في مؤسساته.
المصالحة لا تلغي العدالة ولكنها في نفس الوقت توقف الرغبة في الانتقام وتساعد على تجاوز منزلقات المراحل الانتقالية. ولدينا ثلاثة نماذج مهمة في التاريخ الحديث في دول مختلفة حاولت أن تتصالح مع ماضيها السياسي الأليم وتوصلت إلى طي نهائي أو جزئي لملفات على درجة كبيرة من الخطورة، في إطار من الحد الأدنى للتوافق الوطني، وحفظ الذاكرة الجماعية وتوثيق جرائم الماضي حتى لا تتكرر. يمكن لهذه التجارب الثلاث أن تكون نموذجاً يحتذى به، في الدول التي سقطت فيها الديكتاتورية في الوطن العربي، رغم النقائص التي تشوبها لأن الكثير من الضحايا يرون أنها غير كافية، إما بسبب عدم تحقيق العدالة أو عدم كفاية العقوبات التي أصدرت في حق الذين ثبتت إدانتهم أو الذين مكنوا من عفو شامل إذا اعترفوا بذنوبهم خاصة في جنوب إفريقيا. هذه التجارب هي هيئة الإنصاف والمصالحة في المغرب، وهيئة الحقيقة والمصالحة في جنوب إفريقيا، واللجنة الوطنية لضحايا الاختفاء القسري في الأرجنتين.
١. هيئة الإنصاف والمصالحة في المغرب:
تأسست هذه الهيئة سنة 2004 بغرض جبر الضرر الجماعي ورد الاعتبار لضحايا سنوات الرصاص. تعتبر هذه اللجنة أول لجنة تؤسس في بلد عربي للمصالحة مع الماضي عن طريق الطي النهائي لملفات الاختطاف السياسي والاعتقال التعسفي لأسباب سياسية، وكذلك في سبيل جبر الضرر الذي لحق بالأفراد والجماعات بسبب تصرفات الدولة أو أجهزتها. أهم ما جاءت به هذه اللجنة في نظرنا هو أنها سمحت لضحايا تلك المرحلة بالكلام رغم القيود التي فرضتها عليهم طبيعة عملها. كما أن الدولة المغربية قامت بصرف تعويض مادي للضحايا في مقابل التخلي عن متابعة المشاركين في هذه الانتهاكات في المرحلة المعروفة بسنوات الرصاص. المثير أيضاً في التجربة المغربية هو أن فتح هذه الملفات أدى إلى ازدهار أدبيات السجون التي فتحت آفاقاً أوسع ليس فقط للمعالجة النفسية للضحايا ولكنها وفرت إطاراً وطنياً أرحب لمشاركة الشعب في جزء أليم من تاريخه السياسي. بطبيعة الحال، كأي لجنة شكلت بقرار سياسي من فوق يبقى الكثير من المسكوت عنه في ملفات شائكة تتدخل فيها أطراف عديدة وخاصة ملف زعيم اليسار المغربي المهدي بن بركة، الذي لم تستطع هذه اللجنة حله، ونفس الأمر بالنسبة لملف الحسين المانوزي. استطاعت الهيئة التي ترأسها إدريس بنزكر أن تقدم توصيات مهمة للأصحاب السلطة السياسية لم يؤخذ بها إلا بعد الحراك الذي شهده الشارع المغربي منذ شهر شباط/فبراير لعام 2011. وعجل هذا الحراك بتضمين هذه التوصيات للدستور المغربي الذي تم التصويت عليه في شهر يونيو/ حزيران 2011. ورغم ذلك تبقى الكثير من العوالم الخفية في ملف الاختفاء القسري في المغرب والكثير من الضوء الذي يجب تسليطه على هذه المرحلة المفصلية في تاريخنا الحديث.
٢. لجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب إفريقيا:
تأسست هذه اللجنة سنة 1995 بغرض التحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان خلال مرحلة التمييز العنصري في جنوب إفريقيا. تميزت أشغالها بالانكباب على الاستماع للضحايا وتوثيق الجرائم التي تعرضوا لها. لم يكن تعويض الضحايا خياراً من خيارات المصالحة كما هو في المغرب، إلا أن الضحايا احتفظوا بحقهم في اللجوء إلى القضاء لمتابعة أعضاء وجلادي النظام السابق. الجديد في هذه التجربة هو أنها مدت يد الصفح والعفو لكل من تلطخت يده بجرائم انتهاك حقوق الانسان، إذا ما أقدم على الاعتراف بتلك الجرائم حتى لو لم تكن معروفة. أهمية هذا الحافز تكمن في أن الهدف الاسمى للمصالحة يتجاوز العدالة. هذه الاخيرة قد تتحقق ولكنها قد لا توفر ضمانات لمعرفة حقيقة ما حدث بالضبط. لكن إذا تكلم المنتهكون من تلقاء أنفسهم، فإن البحث عن البراءة يتنفي وتتجلى الحقيقة كما عيشت وليس كما يتصورها أو يركبها القاضي انطلاقاً من القرائن المتوفرة له. يشكل هذا في تقديرنا إضافة نوعية لأن المصالحة تتحقق عندما تتولد القناعة لدى كل الاطراف بأن صفحة الماضي المؤلم يجب أن تطوى لكن ليس فقط بالعدالة ولكن بالمكاشفة أيضاً، رغم أن الضحايا يجب أن يتوفر لهم الحق المطلق لا في ملاحقة أدوات القمع ولكن في ملاحقة أولئك الذين يتحملون المسؤولية السياسية عن تلك الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان.
٣. اللجنة الوطنية لضحايا الاختفاء القسري في الأرجنتين:
تأسست هذه اللجنة سنة 1983 لطي صفحة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان إبان الحقبة الديكتاتورية في الأرجنتين. لقد حققت هذه اللجنة الوطنية في الاختفاء القسري بين 1976 و1983 وعملت على إثبات الحقيقة حول هذه الحالات، وكذلك تحديد أماكن تواجد رفات الضحايا. كما أنها قدمت، وعلى غرار التجربة المغربية، تعويضات للضحايا الذين أثبتوا أنهم اعتقلوا بدون محاكمة في الفترة ما بين 1976 و1979، ويقدر مبلغ التعويض الإجمالي للضحايا بثلاث مليارات من الدولارات حسب بعض التقديرات. التجربة الأرجنتينية أبقت أيضا على حق الضحايا في اللجوء إلى القضاء لمتابعة جلاديهم على خلاف التجربة المغربية التي حرمت كل طالب للتعويض من حقه في العدالة مما يعاب عليها كثيراً من قبل الضحايا الذين يرون بأن الدولة المغربية تتحمل المسؤولية فيما حدث لهم، وبالتالي يجب أن تقدم لهم التعويض بالاضافة إلى تحقيق العدالة. وعندما تتحقق العدالة فإن ذلك سيجبر خواطرهم ثم بعد ذلك تتم مسامحة الجلادين وليس العكس.
قدمت كل هذه اللجان توصيات أخذت بها المؤسسات السياسية للدول المعنية في سبيل بناء دولة ديمقراطية مدنية رغم أن الحالة المغربية أخذت وقتاً طويلاً بين تقديم تقرير هيئة الإنصاف والمصالحة وبين تضمينه للدستور المغربي. لقد مرت ست سنوات بين تقديم إدريس بنزكري لتقريره سنة 2005 وسنة 2011 حيث فرضت الثورات العربية على المخزن المغربي التعامل بجدية مع المقترحات الحقوقية التي تضمنها لمحاربة الإفلات من العقاب وانتهاك حقوق الإنسان وفصل السلطات. وتبقى توصياتها رغم نقائصها وثائق مهمة لفهم تاريخ هذه الشعوب وماضيها ومدخلاً لفهم الذاكرة المشتركة. هذه النماذج الثلاثة يمكن أن تشكل نقطة انطلاق مهمة للوطن العربي الجديد في طريقه نحو التعددية السياسية والمواطنة المسؤولة، المبنية على قيم العدالة والحقيقة، والقطع مع عقلية القبيلة والطائفية البغيضة التي لم ولن تؤدي إلى تحقيق العدالة، ولن تساهم في انتقال العرب إلى عصر الدولة المدنية الديمقراطية.
في شهر ديسمبر الماضي كنت في المغرب و التقيت مصادفة بشبان في القطار الرابط بين الدار البيضاء ومراكش. كانوا من أطيب خلق الله ولكن كان هناك شيء غريب في الطريقة التي كانوا ينظرون بها إلى المناطق التي مر منها القطار وخاصة لنضارة العشب وجمال السهول المغربية وكانوا يعلقون على الفقر والتهميش في الأحياء الهامشية التي مر منها القطار. المهم أنني دخلت معهم في حديث واكتشفت أنهم من ليبيا وأنهم حاربوا القذافي وقضيت أكثر من ثلاث ساعات وأنا أستمع إليهم وإلى تجاربهم في الحرب وفي قتال واحد من أكثر الديكتاتوريات العربية فتكاً. في لحظة ثقة أروني صورهم مع جثة القذافي في مسلخ في مصراتة. كانت هذه الصور مدخلا للحديث معهم عن همجية طريقة قتله وكان الأولى اعتقاله وتقديمه للعدالة حتى يعرف الناس ما حدث بالضبط، وفي سبيل معرفة الحقيقة وتسليط الدور ليس على تآمر القذافي على الشعب الليبي فحسب، ولكن أيضا لمعرفة مساهمة القوى الدولية في توطيد أركان حكمه. بطبيعة الحال جن جنون الشبان الأربعة وقالوا إنهم لو استطاعوا إحياء القذافي وقتله ألف مرة لفعلوا. ظل فمي فاغراً من هول ما سمعت ولكنني حاججت الشبان وفي كل مرة يقولون بأن الكلمات لا تستطيع وصف ما ذاقوه من ذلك النظام. هذا الكم من الحقد يفسر بشكل ما طبيعة النهاية المأساوية التي ذاقها القذافي بسبب كتل الحقد والكراهية التي تراكمت في نفوس أفراد الشعب الليبي بسبب تصرفاته. إلا أن السؤال الذي لم يستطع أحد من الشبان الإجابة عليه هو عن مدى قدرة الثورة على القضاء على كل من تعاون مع النظام السابق وإذا ما كان هذا الانتقام سيجر انتقامات أخرى. وصل القطار إلى مراكش وتوادعنا ولكن السؤال ظل يشغلني دون أن أجد له جواباً إلا في الدعوة إلى المصالحة.
إن الانخراط في مشروع مصالحة وطنية شاملة تسمح بإعادة بناء الذاكرة المشتركة، بعد محاكمة كل المجرمين السياسيين والاقتصاديين سيحرر العرب من أغلال الماضي الأليم وسيفتح لهم أبواب مستقبل البناء المؤسساتي. فمحاكمة مبارك وبن علي وكل الذين اقترفوا جرائم سياسية واقتصادية بحق شعوبهم، يجب أن تحظى بالأولوية، ليس بغرض التشفي ولكن في سبيل حفظ الذاكرة المشتركة، وإكراما لأرواح الذين سقطوا في نضالهم الطويل ضد القمع والديكتاتورية. فبناء دولة المؤسسات لا يتم بالانتقام ولكن يتم عن طريق الحوار الوطني الشامل والرغبة الصادقة في بناء دولة ووطن الغد. حفظ الذاكرة الجماعية يبدأ أيضا بإطلاع الشعوب على أرشيف القمع و الفساد والاغتناء غير المشروع وتفكيك أجهزة القمع وتحويل مقراتها إلى متاحف. اليوم الذي تبنى فيه النصب التذكارية لضحايا الديكتاتورية في أهم شوارع وساحات العواصم العربية سيكون ربما اليوم الذي سينبئ ليس بتحول سياسي فحسب، بل بتحول ثقافي أيضاً. تحول يدل على عمق التغيير الفكري والنفسي الذي حدث في هذه المجتمعات. فتمتيع الديكتاتور نفسه بحقه في المحاكمة العادلة لبنة من لبنات المسار الطويل للمصالحة الشاملة مع التاريخ والذات والمستقبل.
[هذا المقال نسخة معدلة عن مقال سابق نشر في ”القدس العربي“ سبتمبر 2011.]